دعاء السنجري Doaa Elsangary تكتب عن: “السعادة ممكنة من خلال يقينية حديث ما بعد الموت وتلاقى الأرواح” من خلال رؤية لكتابات خيرية شعلان لرفيق دربها رجائي الميرغني في يومياتها #صباح_الخير_يارجائي
الحديث الأخير دائما هو حديث أحد طرفيه فى عالم الأحياء والآخر هناك فى العالم الآخر، حديث لا يعى يقينية حدوثه غير طرفيه، وإذا كان يؤكد غياب أحدهما فهو بلا شك حياة جديدة لذلك الحى الذى ليس له أن يحيا إلا بعد هذا الحديث الأخير، حديث نستشعر معه تلك الحاجة العميقة لئلا يموت أولئك الذين أحببناهم فنجعلهم يشاركوننا حياتنا الباقية.
هذا ما بدأته الكاتبة الصحفية “خيرية شعلان” منذ عامين هما عمر غياب زوجها ورفيق دربها وأنس روحها وظل نفسها ورجاء قلبها الكاتب الصحفى “رجائى الميرغنى”.. حديث ممتد تحت عنوان (صباح الخير يا رجائى) متجدد مع كل شعاع من أشعة شمس، زاد يومى تحيا عليه حتى تلتقيه فى اليوم التالى، تقول:
(فى الحلم ذهبنا بعيدا خارج المكان والزمان، ذهبنا شرقا حيث أشرقت شمس محبتك، وعرجنا غربا حتى لامسنا النيل والأشجار وحروف الكلمات، وصعدنا إلى عنان السماء حيث لامست أطراف روحك فى خلودها السرمدى، وهبطت أرض الواقع أتلمس أثرك وصوتك ونظرات عينيك ولمسات يديك، المشاعر والحكايات والأماكن تشكو غيابك.. لكن مازالت ترسل هداياك حتى فى المنام).
•حقيقة هى أن يناجى الحبيب رفيقه عبر الأجواء وهو على يقين أنه يسمعه ويدرك معانيه، تقول خيرية: (كنت دائما تنصحنى باللجوء للموسيقى المجردة لتحقيق الاستقرار النفسى والوجدانى، لكن هذه النصيحة لم تعد تجدى معى يا رجائى منذ رحيلك، وكلما تذكرت كلماتك أرد عليك بصوت هامس، كفاية اللى “إتجردته لغاية دلوقتى”، أنا من بعدك إتجرفت أيامى ومشاعرى ومازالت تنزف ألما).
وتتساءل: (أساحر أنت؟!، منحتنى بسحرك قوة وقدرة واقتدار للمضى فى الحياة بلا خوف أو وجل، كنت معك مرفهة، منعمة، عايشة حياتى بحيوية وصخب وتمرد، فكيف بالله عليك أتجرد أو أتمرد الآن يا مرشدى ودليلى.. لقد أدرت ظهرى لأشياء كثيرة كنت أمضى معها أوقاتا طويلة، كثيرون نصحونى بالتدريب على النسيان علنى أعود لنفسى، وأقول لهم الإدمان أفضل من النسيان.. أعدك يا ساحرى ألا أتدرب على النسيان أبدا).
“خيرية شعلان” فى حديث ممتد هو سبيلها الوحيد نحو التعافى من أثر الغياب، لا يعنيها من يتابعه أو حتى ينتظره، فكلماتها مصوبة نحو رجائها بسهم نافذ من قلب ينبض بالذكريات ويتعافى بذكرها، ونفس تهيم عبر آفاق الافتراض فتحيله إلى واقع، يقينا منها بأنه هنا وليس هناك.
بفضل هذا الحديث أيضا تعافت الروسية “فيرا تولياكوفا” زوجة الشاعر التركى “ناظم حكمت” من حالة الحزن التى عانتها بعد رحيله والذى عبرت عنها فى كتابها (الحديث الأخير مع ناظم)، حديث حسمت على أثره إشكالية أن تعيش مع أن أهم ما فى حياتها كان قد تحقق، حديث بدأ بعد مرور أسبوعين على رحيله عام 1963 واستمر عامين كاملين، ليلة إثر أخرى، والنتيجة كما تقول: (ألف صفحة، وناظم كما عرفته، وتواصل لا يمكن لأى شىء حتى لو كان الموت أن يحول دونه).
تذكره بما مضى، وبما عاشاه وشاهداه معا، بما كان يحدثها عنه وظروف كل حدث وحديث وقد استطاعت بحرفية حبيب وشفافية رفيق روح وعقل عدم التأثير على مواقفه وآرائه، والحقيقة أنها لم تفعل ذلك بطريقة خطابية مباشرة، بل بلباقة، كما لو أنها تخشى جرح شخص محبوب.
غاب “ناظم حكمت” بجسده وبكل تناقضاته كشاعر، إنسان، طفل، مراهق، شجاع، مناضل، مدافع عن الحرية والسلام، وبقيت أعماله كما روحه حره للأبد تحاور “فيرا تولياكوفا”.
•معك.. ماذا كان؟ وكيف أضحى؟! كنت بيدى ساكنا سكون الروح هادئا هدوء النفس واليوم تمتد يداى وتمتد ليتضاعف طول ذراعى عبر الآفاق بحثا عنك بلا جدوى.. ذراعى لن تمسك بذراعك أبدا ويداى تبدوان بلا فائدة.. كانت تلك الكلمات “لسوزان طه حسين” وهى فى موكب الجنازة حيث أخذت تداعب الهواء بيدها التى أخرجتها من نافذة السيارة لتمتد إليها عشرات الأيادى فتفيق أنه ليس هنا وإنما هناك، صدمة جعلتها تتساءل: (ما أكثر ما أفكر فى النساء اللواتى غدون وحيدات وهن ما زلن فى ريعان الصبا، كيف وقد تخطيت الثمانين ولا أعرف كيف سأعيش بعدك؟)
وتأتيها الإجابة بأنها تودع جسده لكنها أبدا لم ولن تودع روحه فكان الحوار الأخير الذى لم تجريه بيقينية أنه يسمعها فقط بل كان يرد عليها جراء توحد دام بينهما ولم ينقطع بالموت.
فنجدها تسير على الدرب الذى كثيرا ما أتيا إليه حتى كادا أن يتعرفا إلى كل شجرة فيه، وتحدثه: (آه يا صغيرى! يا صغيرى الذى لن أعثر عليه إذا ما دفعت بابا ما.. نعم سيكون ثمة باب آخر يوما ما، فهل ستكون وراءه كى تستقبلنى؟).
ويجيبها فى تلك الخطابات التى كان يرسلها لها من القاهرة وتتوحد مشاعرهما فى قوله: (أجدك فى كل مكان دون أن أعثر عليك).
والحقيقة أن خطاباته لديها كانت الذات الذى عاشت عليه ووجدت فى كلماتها سكينة الروح وهدوء النفس ويقين العقل أنه معها فنجدها تتساءل: (أمن الممكن يا طه أننى كنت محبوبة على هذا النحو وأننى كنت المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟ لست فى المعادى على الإطلاق وليس عمرى 80 عاما أشعر أنى نشوى خارج الزمن الحاضر وخارج العالم).
وتأكيدا على أن الذين يتحابوا يتواصلون على نحو آخر يقينا وليس ظنا. تتمنى “سوزان” لو كانت مجرد عابرة بالمعنى المطلق لهذه الكلمة وتقول: (لو أننى استطعت ذلك لجعلت من نفسى خيالا لا يرى حتى أتجه نحوك بكل قواى.. كل ما بقى منى يأتى إليك).
•تعافى آخر استطاعت بلوغه “عفاف عزيز أباظة” زوجة الكاتب الكبير “ثروت أباظة” فى محاولة وصفتها بالفرصة الذهبية لأن تعيش معه من جديد من خلال مؤلفها الأول والأخير (حياتى مع ثروت أباظة فى نصف قرن)، الكتاب رسالة اعتذار طويلة على مواقف غير مقصودة استوعبها الأديب الكبير واحتوى صاحبتها التى أحبها بصدق وإدراك لطبيعة شخصيتها حيث أكدت ذلك بشرحها كيف عكست طبائعهما المختلفة ملامح حياتهما، فكانت تحفظا دائما من ناحيتها وحبا متدفقا كالشباب من ناحيته وتقول: (كنت لا أسمع منه إلا الكلمات الحلوة الرقيقة، ولكن للأسف لم يكن فى مقدورى أن أسمعه بدورى كلمات جميلة، فقد كانت تقف فى حلقى وتظل حبيسة به، وإنى لأندم الآن لأننى حرمته من تلك المشاعر التى يطيب للشباب أن يشعروا بها).
•الألم الحقيقى هو أن يكون لدى الإنسان الرغبة ولا تكون لديه القدرة.. فعلى الرغم من غطرستها فى مواجهة حبه، فإن فيض الحب عنده لم يجف، ودلائله سارت فى مسارها الطبيعى، من خلال مواقف عديدة، ولم تكن تتعافى من صدمة موته وفقدانه بما سردته عن حياتهما فى مؤلفها فقط وإنما باعترافها كما لم تعترف امرأة قط فتقول: (كنت أحس بحبه الجارف لى، فتجبرت، وأخذت أثبت وجودى، وأدافع عن كيانى بقوة، عاتبته على الهفوة، أخذته على نغمة الصوت وعلى خائنة الأعين وما تخفى الصدور”، ثم تضيف: وأحمد الله الذى مد فى عمر زواجنا، واستطعت أن أعوضه عن بعض ما فات، ولكن كنا قد وصلنا إلى الكهولة وشتان ما بين الشباب والكهولة).
“خيرية” “فيرا” “سوزان” “عفاف”، وغيرهن كثيرات تعافين ويتعافين كل يوم بفضل يقينية الحديث مع روح معلقة بين السماء والأرض تسمع وترى، تشعر وتتكلم، تتساءل وتجيب.
•حقا إنها قضية الزمان والمكان القضية التى شغلت الفلاسفة والمفكرين لكنها أبدا لم تعجز المحبين الذين تجاوزا هذين الأبلهين (الزمان والمكان) ليبقوا معا ليس فقط حتى قيام الساعة، بل إلى ما بعدها.
مجلة الاذاعة و التليفزيون