فصول من رواية أكتوبر لرجائى الميرغنى

حُلم العبـــور

ترامت أطراف غلالتها الزرقاء وهى مستسلمة للنور الكونى يلُفها من كل اتجاه ، تركت عينىّ تغتسلان فى بهائها الساطع وأنا أسند ظهرى على ملجأ من أكياس الرمل قرب الشاطىء . تمدّد عبقها البحرى الى أرجاء نفسى فأومأت لها برأسى عرفانا وتحية ، كانت هذه الإيماءة جزءا من طقوس زياراتى لها كلما حانت فرصة الوصال . فى الأيام الأخيرة تسرّبت رائحتها الندية الى عوالم يقظتى ومنامى كالنداء الخفى ، كل ماتراكم فى مجرى حكايتنا يتحرك فى أعماق الذاكرة والشعور ، انتظرت فرصة مواتية للذهاب إليها فلم تأت ، تحايلت للحصول على إذن بمأمورية لبضع ساعات خارج السرية ، ولم أكد أتسلم الإذن حتى وجدتنى أهرول إليها بلا إبطاء ، وها أنا ذا أحتضنها فتشملنى بدفء البدايات الأولى لعلاقتنا ، ثم يتداعى شريط الذكريات التى صاغت فصول قصتى معها .

كان الوقت مقتبل ربيع ، وكانت فاتنة الحسن تتخفى خلف أشجار باسقة تحيط بمقر قيادة الكتيبة 16 مشاه فى قمة فايد ، وكنت يومها جنديا متعبا وصل لتوه قادما من مركز تدريب المشاة بالهايكستب ، آثار يومين من السفر المتقطع المضنى بصحبة مخلاة المهمات ومندوب الترحيل واضحة فى وجهى المغبّر ونفسى الكليلة ، أنزلت المخلاة عن كاهلى وتجولت فى أرجاء المكان حتى قادنى النسيم البحرى المنعش اليها .. يا للفتنة.. يالها من بحيرة رائعة ورائقة ، ويالها من مكافأة للجندى المستجد فى أول أيامه بالجبهة .

لبثت قليلا حتى ارتوت حواسى العطشى من هذا المعين الذى لم يكن فى حسبانى ، لم يكن لدىّ الحق فى المزيد حتى أتابع إجراءات إلحاقى بالكتيبة ، فى طريق عودتى الى مقر القيادة تذكرت كتب الجغرافيا التى درسناها فى مراحل التعليم، وتعجبت لتسمية كل هذا الجمال بإسم البحيرة المُرة!

أطلقت لأحلامى العنان فتمنيت أن يكون مقامى فى الجوار على مقربة منها ، لكن نشوة الحلم لم تدم طويلا فقد جاء من يبلغنى بتوزيعى على موقع السرية الثانية ، سألت متوجسا : بعيد عنها ؟ فأجاب مندهشا : عن مين ؟ قلت مستدركا : عن البحيرة . رمقنى بنظرة مستريبة قبل أن يرد : مش كتير .. فركة كعب من هنا . حملت مخلاتى وخيبة أملى واتخذت طريقى الى موقع السرية الثانية ، فى اللحظة التى عبرت فيها الى الجانب الغربى من طريق المعاهدة القديم شعرت بشىء من الحسد تجاه أفراد السرية الثالثة وقيادة الكتيبة الذين يستأثرون بالموقع البحرى ، تثاقلت خطاى فى رمال الصحراء لمسافة تزيد على الكيلومترين ، وأخيرا ساقتنى أقدامى الى موقع يضم مجموعة هناجر مسيّجة بأسلاك شائكة وزوايا حديدية ، وبحسب الوصف أدركت أننى على مشارف السرية التى شاءت الصدفة أن أكون واحدا من أفرادها .

تعاقبت الأيام وتعددت الأحداث والشئون ، وظل حنينى يدفعنى إلى عتباتها كلما سنحت فرصة للقاء ، وكلما ضاقت نفسى من ربقة الأصفر والكاكى وهفت الى فطرتها البحرية الصافية ، كانت البحيرة أشبه بحضن واسع يحتوى أحزانى الرمادية الصغيرة ويذيبها فى أعماقه السحيقة ، تراءت لى دائما فوق كل الهموم وأقوى من كل الأحزان ولم أحسب أن شيئا يمكن أن ينال منها ، أو يعكر صفو علاقتنا الحميمة حتى جاء ذلك اليوم الذى أطاح بكل الظنون .

هل كانت تلك الإرتعاشة الحزينة التى ندّت على صفحتها فى غروب أحد الأيام إشارة التحول ؟ أم أنها أفكارى التى مضت مع دفقات الماء الى حيث تمور فى الأعماق .. هل كان ما رأيت من تجليات المنظور أم كان انبعاثا من خفاء لا أعرف قراره ؟! .. كانت عيناى تحدقان فى الأفق البعيد الذى يسيّج حضرتها عندما راحت المسافات تتبدد والنظر يغيم ، وفى لمحة كالبرق اقتحمت صورة الأعداء حدقة العين .. كانوا هناك على الضفة الأخرى من البحيرة .. جنودهم ومجنداتهم يسبحون ويعبثون على الشاطىء المقابل ، كانوا يختفون ويظهرون ويتكاثرون ويستبيحون ماء عينى فى وضح النهار .

انظرى أيتها الصامتة الجميلة ..اثنا عشر كيلومترا تفصل ما بين ضفتيك لا تحجب وجودهم عنى أو تمنعهم عنك .. انظرى الى ظلال عداوتهم تلبد فى ماءك وتسرى فى نفثات الهواء العابر ، انظرى إليها وهى تتربص بخلوتنا وتتسمع نجوانا .. أيتها الصامتة الجميلة .. لماذا تتلفعين بقناعك الفيروزى الساحر وتخفين عنى وجهك المكلوم ؟ .. ولماذا تعلقتُ بأهدابك ، وعميت عن موضع الجرح فى أحشائك ؟ّ!

افترقنا لأيام موحشة أليمة ثم رجعت إليها من جديد ، قلب سقيم وماء شاسع حزين ، جيش من الأعداء يجثم على صدرها وصدرى ، وبحار من الصمت تفصل بيننا ، والعاشق القديم ليس فى جعبته سوى بضع أسئلة أليمه : لو كُنت واحدا من أفراد السرية الثالثة يصطاد سمكا فى الصباح ويُمضى الليل فى حراسة البحيرة .. هل كنت تقدر على إزاحة أشباح العدو وهى تعلق بين رموش عينك وماء البحيرة ؟ هل يحجب الإعتياد عنك وجودهم الغاشم ؟ وإذا كنت لا تقدر فكيف تحتضن حبيبا والطامعون يعُدّون عليك أنفاسك ؟!

تبرأت من حسدى القديم لأفراد السرية الثالثة المحاذية للبحيرة ، أصبحتُ أشفق عليهم وعلى الآلاف من الجنود المرابطين فى خنادق القناة .. أشفقتُ على كل من يطالع وجه العدو بالبصر أو بالبصيرة ، وعلى كل من يستنشق هواء يخالط أنفاسه الكريهة .

عدتُ أحدّق من جديد فى طلعة الصامتة الجميلة ، خلت ُ أننى أراها فى لمحة واحدة وهى تطوى أعطافها على الجرح ، وتمنح السلوى بكبرياء جمالها الفاتن . أيتها الصامتة الجميلة لا عليك الآن ، كونى ماتشائين .. منظرا طبيعيا حالما ، بحرا مالحا أو بحيرة مرة ، كونى كما تشائين ولا تجزعين ، فعاشقك المُحب لن يضل طريقه إلى قلبك ، ولن يكفر بعد الآن بآيات حسنك وجمالك .

نفضت جماعة من طيور النورس البيضاء أجنحتها فوق تلة قريبة .. خمش الرفيف نجواى فانفتح السمع على صفق الأجنحة وخفق الهواء ، حدّقتُ إلى الطيور وهى تتعالى وتندفع موغلة فى سرة السماء ، إمتلأ صدرى عن آخره ببخار حار فتهدّج صوتى بكلمات لم ينطق بها لسان ، ملكتنى رغبة محمومة فى الإنطلاق الى حافة البحيره ، ترجّلت متقدما إليها حتى استوت قدماى على الشط ، فى التو لاح لعينى قارب صيادين يمرق فجأة الى عرض البحيرة وقطعان الماء تنزاح من أمامه .. أخذ الصيادون يضربون الماء بمجاديفهم فتخلّف رغاء وزبدا ، والقارب يندفع للأمام ويشق الأفق كحصان اسطورى .. ولم تمر سوى دقائق قليلة حتى صار القارب نقطة مستقرة فى محيط فضى بعيد ولم أعد قادرا على ملاحقته .

عدت بعينىّ الى الساحل القريب .. كانت ألسنة الماء تتهادى فوق رمال زاهية بلون الشمس ، تسترسل مُقبلة ومُدبرة ثم تغوص فى عمق البحيرة .. بدا المشهد بلا ظلال فارتعش جفناى وانسدلا مطبقين على حلم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 قبل دقائق من حدث العبور العظيم

6 اكتوبر 1973

عقربا الساعة على وشك الإلتحام فوق علامة الثانية عشرة ظهرا لحظة أن رأيتهم يهرولون قادمين من موقع المطبخ الميدانى للكتيبة فى طريق عودتهم الى الخنادق، لم تكن ساعة يدى تفرط فى التقديم أو التأخير، ولم أفقد احساسى بالزمن فى ساعات النهار، عاودت النظر إليهم من جديد، إنهم بالفعل أفراد “الطُلبة” يحملون حاويات “اليمك” المعدنية والبخار يتصاعد منها .. وجبة ساخنة فى هذه الساعة لمن؟! معظم العساكر صائمون، وموعد الإفطار لن يحل قبل ساعات، والمعتاد أن تقوم الطُلبة بإحضار الوجبة قبيل المغرب !

الإشارات تتابع وذهنى يكد فى قراءتها، بوصلة المنطق تدفعنى بشدة فى اتجاه الشرق، رؤية قوارب العبور المطاطية، التعجيل بالإفطار، كلها إشارات على التمهيد لحدث استثنائى وشيك، حدث يفك الزمن من قيوده لتبدأ عجلة التحولات العظام فى الدوران . الأفكار والحواس والمشاعر تتصالح داخلى للمرة الأولى وتتحفز بلا تردد لإستقبال الحدث الكبير، الحدث الذى استبطنه الشاويش مجدى منذ البدايات الأولى .. أين أنت الآن يامجدى لأشد على يديك وأقبّل وجناتك، لن أتردد ياصديقى فى الإعتراف لك بالسبق والخبرة، تهاوت كل طبقات الشك التى حجبت عنى الرؤية ، وانكشف اليقين الذى فاضت به كلماتك وأمتلأ به قلبك، ولم يعد من حقى مجادلتك بعد الآن حتى لو تمسكت بندائك الشهير لى: يا مستجد .. تعجبت لنفسى التى اجتاحها شعور بالمكسب فى لحظة الإقرار بخسارة الرهان .

توالت الأحداث وأسلمت بعضها البعض فى استرسال فريد، أرسل الملازم عبداللطيف فى طلب أفراد الخدمة على عجل، غادرنا رؤوس الطرق والتحقنا برفاق الخندق، وجدناهم يتحلقون حول الملازم عبد اللطيف وهو يحاول إقناع الصائمين منا بالإفطار، لم يجد الضابط ما يبرر هذا التصرف سوى التلميح بالمجهود الذى ينتظرنا فى أى لحظة، استمر الصائمون على ترددهم فى الإستجابة لطلبه فمدّ يده الى قطعة بطاطس صغيرة من طعامنا وألقاها بحركة تمثيلية فى فمه أمام الجميع وأخذ يردد : ما تخافوش أنا اللى هاشيل ذنبكم قدام ربنا .

تصرف الملازم عبد اللطيف ببساطته المعهودة معنا، لكننا لاحظنا عينيه وهما تلمعان ببريق آسر لم نلمحه فيهما من قبل، ونبرات صوته المتعجلة وهو يؤكد على الإلتزام بأعلى درجات الإستعداد وعدم مغادرة الخنادق لأى سبب . فوّض الضابط “شاويشية” الفصيلة فى الإشراف على تفاصيل الإستعداد، وقبل أن يغادر الخندق ودّعنا بكلمات مؤثرة وموحية أيضا بما نحن مقبلون عليه: شدّوا حيلكم يارجّالة .. عشان نرفع راس البلد ..

أعطى العساكر الأولوية للمعدات والشدّات قبل أن يفكر بعضهم فى التجاوب مع دعوة الملازم عبد اللطيف للإفطار المبكر، تيخا شغل نفسه بمخزون المياه لدى الفصيلة فراح يراجع جراكن الماء خلف شدّات رفاقه، لكنه تحسب للطوارىء فأضاف جركن مياه الى مهماته الشخصية وثبته بحزام حول شدّته، وحين تحرك قليلا بأثقاله بدا أشبه ببطريق يتأرجح فوق الجليد .

ظلت الوجوه والأنظار تتقلب بين مهمات القتال والفضاء الخارجى للخندق، الحركات متوترة وسريعة تشى بالجدية والتأهب للمهمة الوطنية التى ألمح إليها قائد الفصيلة دون تصريح، الكلمات مقتصدة وعملية لكنها تفصح عما يجول فى الخواطر . اسماعيل ” القناوى ” وضع رشاشه الخفيف بين ركبتيه وأخرج مُصحفه المذهّب وأخذ فى تلاوة القرآن الكريم، كامل يلوك مضغته الأسوانية بين شدقيه مسترسلا فى حال من التأمل الصوفى، بينما فؤاد الأطرش يُغرد خارج السرب متشاغلا عن اللحظة بحلاقة ذقنه .

فى زاوية الخندق قبع عادل يجفف وجهه بمنديل كاكى عريض ويرمق السماء بنظرة مستطلعة، أطلتُ النظر إليه فتذكرت أمانته فى جيب سترتى، دفعنى إحساس خفى الى التحرك إليه، صافحته وهمست فى أذنه :

–  يلزمك أى حاجة ؟

–  تعيش .. تعيش وتفتكر الأمانه .

كان صوته يخرج هادئا وعميقا كعينيه التى احتوت وجهى بنظرة وادعة طويلة، أشرت بإصبعى الى جيب سترتى مرتين حتى يتأكد من أن خطابه يلازمنى وأننى لا أنساه . عدت الى موضعى الأول فعاد عادل بنظراته الزائغة الى الفضاء البعيد .

أخرجت علبة الدخان السائب وورق اللف وبَرمت سيجارة يدوية الصنع، حُكم الضرورة كما قال صاحب الحانوت العجوز فى سرابيوم، أخرجت عود ثقاب وهممت بإشعال لفافة الدخان، وياللعجب، فقد سبقتنى السماء واشتعلت بالمفاجآت .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 حفرتى الأولى على أرض سيناء

7 أكتوبر 1973

رسمتُ دائرة بِطرف الكوريك فى البقعة التى حددها شاويش الفصيلة بمحازاة حُفر زملائى، وشرعت فى تجريف الرمال لإعداد حفرتى الأولى على أرض سيناء، تذكرت تلقائيا قائمة طويلة من أعمال الحفر التى قمت بها فى ظروف وأوضاع مختلفة بالجبهة ومع أنواع عديدة من التربة .. قبل العبور كنت وزملائى بالسرية نردد مقولة ” الحفر من شيّم المشاة ” التى تعنى أن فرد المشاة حفّار بطبعه، لكن الحقيقة أن الحفر كان وسيظل من خصال المصريين عبر الأجيال، أليسوا هم أول من أعاد تشكيل الجغرافيا لبناء التاريخ، الأسلاف العظام شقوا الترع والمصارف وحفروا المعابد فى صخر الجبل، الأجداد حفروا قناة السويس والآباء حوّلوا مجرى النهر وأقاموا السد، أما أحفادهم فقد قاموا بالأمس وخلال ساعات بتقطيع أوصال ساتر بارليف الترابى الذى شيدته الروافع والأوناش الضخمة فى سنوات، واليوم نشق خطًا من الحُفر والخنادق لتصل بين رؤوس الجسور التى أنشاتها قواتنا بامتداد الضفة الشرقية للقناة، تاريخ جديد نحفره بالمعاول والبنادق وعزيمة الرجال .

إحساسى بالحفر فى أرض سيناء استدعى صورا ودلالات لم تخطر ببالى من قبل، ضربات الكوريك الأولى بدت أقرب ما تكون الى توقيعى الشخصى لعقد ملكية هذه القطعة العزيزة من أرض الوطن، أو ربما شهادة استحقاق لكل ذرة رمل من رمالها، لم تعد المسألة مجرد إعداد حفرة برميلية أو اسطوانية لغرض الحماية والدفاع فى المناطق المكشوفة كما كنا نفعل، الحفرة الآن أصبحت علامة على الطريق ونقطة إنطلاق نحو الهدف الكبير، وهى أيضا إسهامنا المتواضع فى كتابة تاريخ جديد لأم الدنيا .

توزعت تأملاتى فى مسالك الفكرة فيما كانت يدى القابضة على  الكوريك تشتبك مع التربة لتعميق الحفرة . شمّرت عن ذراعىّ للوصول الى عمق المتر ونصف المتر الذى يضمن تغطية الجسم الى مستوى الأكتاف ومراعاة المحيط المناسب للحركة داخل الحفرة والذى يصل فى العادة الى نصف مسافة العمق، ومع ذلك تبقى مسألة الأعماق والأبعاد من المسائل التقريبية التى تقبل الزيادة والنقصان بحسب أطوال وأحجام الجنود؛ فحفرة “عطا” أطول فرد فى الفصيلة تحتاج لعمق يقترب من طول برميلين، بعكس “تيخا” الأقصر والأسمن الذى يحوّر حفرته لتصبح أشبه بـ ” قزان اليمك ” فى مطبخ الكتيبة .

اعتدلت قليلا لإلتقاط الأنفاس وإراحة الظهر، احتسيت جرعة ماء من الجركن الدافىء وأنا أتطلع ببصرى الى الأفق المفتوح بلا حواجز أو موانع .. سيناء تتخلص من قيود الأسر والإحتلال مع كل خطوة نخطوها للأمام  وكل طلقة نصوبها الى الهدف، والعدو عاجز عن زحرحة قواتنا التى تتكاثر وتتلاحم ساعة بعد ساعة فى ميادين القتال .. ساءلت نفسى : ترى كم تطول وقفتنا التعبوية فى هذا المكان، ومتى نبدأ فى استغلال ارتباك العدو فى التقدم من أطراف سيناء الى عمقها ؟ لم تكن لدى إجابة بالطبع، القيادة وحدها هى التى تملك تقدير الأسباب التكتيكية والميدانية التى تستلزم هذه الوقفة، وهى التى تعرف مدى حاجة قواتنا لتجميع عناصر القوة أو إعادة تنظيمها فى هذه اللحظة، ومع ذلك ظل إحساسى بإنفتاح سيناء أمام عينى وفشل الهجمات المضادة للعدو يغريانى بالتفكير فيما بعد العبور وإقامة رؤوس الكبارى بامتداد الضفة الشرقية للقناة . استرجعت مراحل آخر مشروع ميدانى شاركنا فيه قبل الحرب، كانت مهمتنا الأولى تنتهى بإحتلال وتأمين خط التقدم، وبعد مرور وقت افتراضى تبدأ قواتنا فى تنفيذ المهمة التالية وهى تطوير الهجوم فى إتجاه المضائق الجبلية بوسط سيناء وانتزاع السيطرة عليها من قوات العدو، ومن ثم إجباره على التراجع الى الصحراء المكشوفة خلف المضائق، فهل تجرى الأمور فى الميدان الحقيقى على هذا النحو؟

هدأت حركة ساعدىّ عندما غطت الحفرة جسمى ولم يعد ظاهرا سوى رأسى وكتفىّ فوق سطح الأرض، تطلعتُ الى ما حولى بنظرات راضية فلمحته عن بعد يسأل زملاء الفصيلة عن مكانى، بدوى، بلدياتى وزميلى من فصيلة مدافع الماكينة، ناديته فرحا فأقبل ناحيتى وانحنى لتقبيلى بحرارة ثم جلس القرفصاء الى جانبى . أخبرنى بدوى أنه كان قلقا علىّ وأنه يبحث عن مكانى منذ أن علم بوصولى سالما، رويت له تفاصيل قصتى الإستثنائية مع العبور وحكى لى ما صادفه وطاقم المدفع من أحداث .

مدّ بدوى يده وأزال بعضا من حبّات الرمال التى تجمّعت فوق سترتى، ثم حانت منه التفاتة متفحصة للحفرة بعد أن كدت أنتهى من تعميقها فبادرنى بالسؤال :   

ـ انت ناوى تقضّى الليلة واقف ؟

لم أفهم ما قصده من سؤاله .. نظرت الى أسفل الحفرة وعدت إليه متسائلا بدهشة :

ـ مالها الحفرة .. برميلية ذى الكتاب ما بيقول

وافقنى بدوى على أنها برميلية بالفعل، لكنه أضاف أن القائد طلب من الجميع تحويلها الى حُفر أرنبية، ثم زاد الأمر إيضاحا وهو يشير الى قاع حفرتى:

ـ يعنى ذى ماعملت حساب وقفتك فى الحفرة، لازم تعمل حساب قعدتك جواها وقت النوم .. يبقى لازم تحفر لقدام 50 سنتى جُحر أرنب عشان تعرف تمد رجليك

قاطعته ضاحكا:

ـ فهمت يا دُفعه .. مفيش مشكله، زى ما برملناها نأرنبها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أول شهداء كتيبتى

8 أكتوبر 1973

أطلقت دباباتنا دفعة من قذائفها فى اتجاه الوجهة التى نتقدم إليها، اقتحم دوىّ القذائف المفاجىء آذاننا ووخزها بقسوة فسارعنا الى سدها بالأكف، كانت المرة الأولى التى أتابع فيها إطلاق دانة دبابة وهى تسبقنا ببضعة أمتار، مع تكرار القصف ومرور الوقت صار الدوىّ جزءا من إيقاع التحرك، لم نعد دخلاء أو متفرجين على المشهد بعد أن حصلنا على الجرعة الضرورية من “تطعيم المعركة” بالتعبير العسكرى المستوحى من القاموس الطبى، والذى يشير الى أن الجنود لايتحولون الى مقاتلين إلا بعد تعرضهم لأجواء الحرب، والحرب مستودع حافل بكل أنواع الضجيج ودرجات الصخب .

لم تظهر أية ملامح لأى أهداف معادية على مدى الرؤية، لا دبابات أو مجنزرات أو جنود، ومع ذلك لم تتوقف دباباتنا عن  تمشيط مجال تقدم الكتيبة بقذائف شديدة الإنفجار، ربما كان الهدف من ذلك توصيل رسالة لأى تجمعات محتملة لأفراد العدو، إنذار مختصر يقول لهم بأعلى صوت: أصحاب الأرض قادمون، اخلوا الساحة أو واجهوا المصير، بينما كانت الرسالة فى ذات الوقت ترفع إحساس أفراد المشاة المندفعين وراء الدبابات بالثقة والثبات .

مضى مايزيد على الساعة من المسير وبعدها انفتح الطريق على مسطح مترام من الأراضى الرملية التى تتخللها بقع خضراء داكنة من العشب البرى، أحسست بالإرتياح لظهور ذلك العشب فى مشهد الخلاء الصحراوى، فالتفاصيل حتى لو كانت صغيرة تكسر الإحساس بالوحشة والتكرار، لكننا لم نمض بعيدا فى هذه المنطقة بعد أن تلقينا أمرا جديدا بالتوقف والإنتظار.

ظهر قائد السرية الرائد حسن ومساعده النقيب سميح وضابط من قادة المدرعات، اجتازوا النسق الأول من التشكيل الهجومى وهم يتطلعون الى الفضاء المقابل بنظارات مكبرة، تبادلوا حديثا قصيرا ثم انسحبوا للخلف، بعد قليل تقدم أفراد من المساحة العسكرية بمعدات قياس المسافات والزوايا وراحوا يدققون فى الإحداثيات ويسجلون بعض البيانات .

لم يترك على الناضورجى فرصة وجوده على مقربة من الضباط دون أن يخرج بمعلومة يفاجئنا بها، تنصّت قليلا لما تيسر من حديثهم ثم عاد الينا بحصيلة ما سمع . قال الناضورجى إنه لم يفهم الكثير من كلام الضباط وهم يتجادلون حول المواقع والإتجاهات، الشيىء الوحيد الذى استخلصه هو أن الكتيبة سوف تواصل التحرك الى الحد الأيسر لقرية الجلاء . لم يكن أحد منا قد سمع عن هذه القرية من قبل، بل إن البعض أبدى دهشته لوجود قرية فى مثل هذه المنطقة الصحراوية ، ومع ذلك فقد كانت هذه المعلومة أول ثغرة فى جدار الغموض الذى يحيط بثالث مهمة كبيرة تقوم بها الكتيبة بعد العبور واحتلال رؤوس الكبارى.

عادت الدبابات تطوى الأرض ونحن فى أعقابها من جديد، توزعت الأذهان بين التركيز فى المهمة والتفكير فى قرية الجلاء التى بقيت بالنسبة لنا مجرد اسم بلا مدلول، شفرة التقطها الناضورجى وعجزنا عن حلها، بالطبع كان القادة يعلمون ماخفى علينا لكنهم، كالعادة، يحتفظون بالحق فى اختيار التوقيت المناسب للإفصاح، على الرغم من أننا جميعا نمشى على نفس الطريق ونواجه نفس التحديات .

اضطربت الحركة فجأة فى الصفوف الخلفية .. التفتنا الى الوراء لإستطلاع الأمر، حجب الغبار الكثيف مجال الرؤية للحظات، ثم ظهر الاومباشى صبرى بوجه مكفهر وعينين دامعتين، وقبل أن يفكر أحد فى سؤاله عما حدث كانت الألسنة المنزعجة من خلفه تنطق بالجواب .. عادل استشهد .. عادل بسطروس استشهد . سقط على الأرض فجأة، أصابه طلق طائش فى مقتل. تسمّرت من الذهول فى مكانى، ثم وجدتنى اندفع عدوا الى الوراء، ربما لأننى لم أستطع تصديق ماحدث، وربما لأننى تمنيت أن أودّعه ولو بنظرة .. لكن عادل كان يمعن فى البعد بينما كانت عشرات الأقدام تتخطاه وتتخطانى للأمام .. تعثرتُ مابين رغبتى فى الرجوع إليه وخوفى من الإخلال بواجبى فى التشكيل، انشطرت الى نصفين، نصف يتحرّق للإقتراب منه والآخر مُجبر على الإبتعاد .

إمتلأ كيانى بنحيب مخيف وأنا أترنح للحاق بموقعى بين زملائى فى النسق الأول، انحدرت الدموع حارة على وجهى فيما كانت الأسئلة الأليمة تتلاطم فى أعماقى .. لماذا الآن ياعادل ؟! لماذا تخليت عن سربك أيها الوديع كالطيور التى صادقتها وأحبتك وتركتنا نتقدم للأمام دونك؟ لماذا أسرعت بقبول دعوة الموت ولم تصارع معنا من أجل الحياة؟ ليتنى رفضت حمل وصيتك الأخيرة ولم أتماه معك فى استسلامك للمقدور، ليتنى ما فعلت فلربما اختلفت الأقدار.

غامت تفاصيل ما حولى فى عينَّى وتركت قيادى لقدمين تتابعان خطى الآخرين، ولم أُفق إلا وقد أدركنا المغيب عندما صدرت أوامر القيادة بالتوقف وانتظار تعليمات الإنتشار على خط التقدم.

التأم جمع من أفراد الفصيلة وتبادلوا كلمات حزينة عن صدمتهم لرحيل عادل شهيد فصيلتنا وأول شهداء الكتيبة، نعوا حظه القليل فى الحياة والموت، اختلطت كلماتهم الموجوعة بأصداء صوت نائح لطائر ليلى شارد، لعلّه ينوب عن معاشر الطيور فى رثائه، أو ربما فى الإعتذار عن غيابها لحظة رحيله، كان عادل نفسه هو من نبهنى الى أن سماء الحرب لن تكون ملكوتا لأى طير، وكأنه كان يلتمس لها العذر مقدما عن الغياب ساعة رحيله بعد أن استشعر مثلها هبوب العاصفة قبل أن تكشر عن أنيابها المُهلكة .. ليتنى فهمت ذلك عندما اختارنى قبل أيام قلائل لحمل رسالته الأخيرة التى سطرها الى أمه، أو خلال الأوقات التى ذكّرنى فيها بتوصيل الرسالة التى لم تبرح جيب سترتى، تلك الأمانة التى تلامس الآن موضع قلبى الذى يتفطّر أسى عليه .

أيها المتسرع العجول .. لك عهدى من جديد، سأذهب برسالتك الى حيث أردت، وإن لم أفعل فاقبل مقدما اعتذارى، فربما تعرف ساعتها أن الموت الذى انتزعك قد شاء أن يضمنى الى جوارك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طيور السماء ترسم لوحة سريالية فزعا من االحرب

ساعات من الهدوء سبقت العاصفة التى فاجأت كل من استرسل مع نفسه وذكرياته، العدو لم يفوّت فرصة الإنقضاض علينا جوا فى أول يوم جمعة يمر علينا بأرض سيناء. الأيام سواء فى شرعة الحرب، لا استثناءات أو مُحرمات، فقط هناك فُرص تتاح وأهداف تنتظر التحقيق، والمفاجأة فى الحرب تفتح الطريق الى النصر، وبالمثل فإن توقع المفاجأة والتهيؤ لكل الإحتمالات يُعزز الطريق إليه.

للوهلة الأولى أدركت أن الفانتوم التى ظهرت فى سماء موقعنا تستهدفنا بشكل مباشر، وعلى خلاف ماحدث صبيحة اليوم التالى لعبورنا المظفر عندما حلّقت على ارتفاع منخفض وتخطتنا لتلحق بالمعابر، ظهرت الفانتوم هذه المرة وهى تناور من أعلى نقطة فى السماء ومن الأجناب لكشف مواقعنا وتوجيه قذائفها إلينا، رحنا نتقلّب بأعناقنا نحو السماء والتحولات الخاطفة للمشهد تأخذنا يمينا ويسارا بلا انقطاع .. دورات سريعة ومتعاقبة فوق محيط المكان تشارك فيها طائرتان فى كل دورة، رجحت أنها تناور للإفلات من النيران الكثيفة التى بدأت فى ملاحقتها من مواقع دفاعنا الجوى، والبحث عن ثغرة تُمكنها من الإقتراب من موقعنا وإستهدافه بالقذائف والصواريخ .

أخذت أقواس النيران من مختلف العيارات تتقاطع وتتشابك وهى تطارد الطائرات المغيرة فى جنبات السماء، تابعت عيناى إحدى قذائفنا وهى تلامس حافة الفانتوم أو تكاد، شلاّل من التفاصيل المُبهرة ينهمر على حواسى المستنفَرة .. كل الألوان والأضواء والظلال تتفجّر وتنسكب على الصفحة الزرقاء الى أن تخبو أو تنبعث من جديد .. الأصوات القريبة والبعيدة، الغليظة والرفيعة تدوّى وتئز فى حيز الأذن، والهواء يدفع بروائح الغضب المحروق والدخان المتخلّف كزفرات أطلقتها آلهة الحرب فى الأساطير القديمة.

فى قلب هذا الكرنفال المُرعب لم استطع أن أمنع نفسى من التساؤل عن السر فى هذا الجمال الوحشى الذى يصدر عن أسلحة الدمار والفناء، وعن التفكير فى وسيلة تحفظ صورة هذا المشهد قبل أن يتبدد أو يصير الى زوال.

فوق الأرض استوقفتنى لوحة أقل سيريالية مما كنت أتطلع إليه فأعادتنى لحسابات الواقع من جديد، أرحتُ عنقى قليلا ثم التفتُ بعفوية الى الفراغ المجاور لحفرتى، ولم أكد أفعل حتى تكشّفت أبعاد تلك اللوحة .. حلقات متقاربة من طيور مختلفة الأحجام والملامح تتجمع وأرجلها متسمّرة بالأرض فى سكون مهيب، لا صوت ولا رفيف، لاشىء سوى نظرات وجلة الى الفضاء الذى أخلته للحديد والموت الطائر. ارتجف داخلى بأسى مفاجىء، وتخايلت أمامى صورة عادل وهو يحدثنى عن إحساس الطيور بقسوة الحرب .. ليته عاش ليشاركها هذه اللحظة فربما خفّف عنها بعض مايعتريها من عناء.

تعالت أصداء القتال الجوى فى أذنىّ فارتفعت بناظرى الى السماء، المزيد من الأقواس والنوافير والأسهم النارية المتقاطعة، حائط صد منيع من صواريخ سام الموجهة من قواعدها الثابتة غرب القناة، وصواريخ منطلقة من منصات أرضية متحركة ودانات مدفعية مضادة للطيران من مختلف العيارات من جانب قواتنا داخل سيناء ، بينما طائرات العدو لا تزال تتلوى كالأفاعى بحثا عن منفذ يسمح لها بالنيل من مواقعنا؛ ذروة التحدى بين سرعة وخداع سلاح الجو الإسرائيلى ويقظة وتصميم سلاح الردع المصرى .

انشقت السماء عن صاروخ عملاق من طراز سام 3 يتعقب طائرة فانتوم جازفت بالتوغل بين النيران، أحسست باقتراب لحظة الحسم حين عدّل الصاروخ مساره بحركة التفافية متقنة فى اتجاه الطائرة المقتحمة التى لجأت للمراوغة حتى تفلت من قبضته، حاولت طائرة فانتوم أخرى استغلال الفرصة بإلقاء بعض قذائفها فى اتجاه دفاعاتنا الأرضية وإبعاد كثافة النيرن عن شريكتها فى الهجوم، فى تلك اللحظة كانت الفانتوم الأولى قد وقعت بالفعل فى قبضة صاروخ سام بعد أن التصق بها كظلها، وفى اللحظة التالية اختفى الظل من المشهد وتحولت الفانتوم الى بقعة من الحديد المتوهج المتناثر والدخان الأسود الكثيف، ولم يكن أمام الفانتوم الثانية سوى الإرتداد والهروب بسرعتها القصوى.

توحدت كل الحناجر على الأرض وهى تردد تكبيرة النصر .. رقص العساكر فرحا على إيقاع القذائف والطلقات التى لم تكن قد توقفت تماما عن الدوىّ. سقطت الفانتوم رمز التفوق الجوى الإسرائيلى العتيد وانتصر دفاعنا الجوى الحديث الذى تأسس قبل خمس سنوات فقط، اندحر المعبود المقدس لجنرالات اسرائيل فى سماء قرية الجلاء مثلما اندحر من قبل فى سماوات القنال والدلتا وسيناء .

اختلطت التكبيرات والصيحات من حولى بترجيعات أُنشودة مصرية آسرة من زمن العدوان الثلاثى على مصر .. دع سمائى فسمائى محرقة .. دع مياهى فمياهى مغرقة .. واحذر الأرض فأرضى صاعقة .. دع سمائى .. دع سمائى .. ظلت الأنشودة تتداعى فى سمعى حتى تلاشى غبار المعركة شيئا فشيئا من السماء وعاد الهدوء يلملم أطرافه على الأرض .. اتجهت ببصرى صوب موضع الطيور المترجلة فلم أر غير الفراغ الممتد بمواجهة الموقع، طارت كلها بغير جلبة الى الفضاء البعيد، لكن نظراتها المرتعبة بقيت محفورة فى حنايا الذاكرة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ما بين عطشين .. للنصر والماء

15 أكتوبر 1973

اشتدت حدة الإحساس بالعطش فى مساء اليوم الثالث لتوقف إمدادات المياه الى الكتيبة وتضارب الأقوال حول السبب فى تعطل عربات المياه عند المعابر التى تصل ما بين ضفتى القناة، الوجوه ساهمة والشفاه جافة والحلوق تتحرق الى جرعة ماء، جرعة واحدة سيكون لها فعل السحر .. لكن من أين ؟ الجراكن فارغة والإحتياطى نفد، وما تبقى من عُلب العصائر شربناه، أصبح البحث عن مصادر بديلة للماء فى محيط الموقع شاغل الكتيبة الأوحد، فتش البعض عن معارفهم وبلدياتهم من أفراد الدبابات الملحقة بالكتيبة لطلب الماء، كانوا يعرفون أن كل دبابة تحتفظ بداخلها بأكثر من ستة أو سبعة جراكن كبيرة من الماء، ومع أن الماء المخزون داخلها عادة مايكون مختلطا برائحة وقود الدبابات إلا أن الجميع ظل يتهافت على جرعة منها، يومان على هذا الحال ثم اعتذر المعارف والبلديات عن تقديم المزيد وقالوا إنهم انضموا الى طابورالباحثين عن الماء فى الموقع.

دورى فى الخدمة الليلة برنجى، ورجب ذو القوة الخارقة أو عم رجب كما تعودنا

مناداته منذ وصوله مع الرديف هو رفيقى فى الخدمة، تحايلت على الوقت والظمأ بإثارة شهيته للحديث، وعلى الرغم من أنه قليل الكلام إلا أننى نجحت فى استدراجه للحديث عن تجاربه كفلاح مع العطش :

ـ الفلاح ما يهموش العطش قد مايهمه إن الأرض والبهايم تشرب

سألته عن ذكرياته مع العطش كجندى فى حرب 67 وذكرت له ماسمعته عن معاناة الجنود فى سيناء أثناء الإنسحاب العشوائى للقوات المصرية .. فاجأتنى إجابة الفلاح الفصيح الذى لم يدخل مدارس أو جامعات :

ـ نار العطش قيراط ، بس نار الذل وضياع أرضك أربعه وعشرين .. طول ما انت رافع راسك فوق أرضك كل شىء يهون .

فى تلك اللحظات بدا لى رجب بجسمه المفتول وقامته القصيرة أشبه مايكون بشجرة جميز عملاقة تمد جذورها فى أعماق الأرض فتستمد منها الثبات والإرتواء حتى فى أشد لحظات الجفاف والعناء. عدت الى مشاغبته بسؤال مباشر :

ـ يعنى انت مش عطشان دلوقت ؟

برزت وجنتاه وغاصت عيناه الدقيقتان فى محجريهما وهو يسترسل فى ضحكة بلا صوت قبل أن يجيب مستنكرا :

ـ أنا .. مين قال كده ؟ دانا الود ودى أجيب كوريك وافحت الأرض ورا الميّه

لاقت الفكرة هوى فى نفسى فلم أدعها تمر ومضيت استنطقه :

ـ فى الرمل ده ؟

ـ أيوه فى الرمل ده .. انت ماشفتش العُشب المِخضّر ف بطن الترعه ؟

ـ شفته طبعا

ـ فكرك عايش على إيه ؟ أكيد على ميّه متخزّنه فى الأرض

قلّبت الفكرة فى رأسى وأنا استحضر بقايا معلومات مدرسية عن مياه الأمطار التى تتجمع تحت سطح الأرض فى بعض المناطق الصحراوية ، قلت لنفسى: ولماذا لا نجرّب الحفر فى بقعة من الترعة للوصول الى هذه المياه، التجربة هى الفيصل، التجربة أفضل من الإنتظار، وكان علىّ أولا وقبل أى شىء أن أطمئن الى استعداد رجب لخوض التجربة معى، رجب صاحب خبرة وقوة وبدونه تصبح المهمة شاقة إن لم تكن مستحيلة.

انفتح الطريق للتنفيذ الفورى بعد أن وافق رجب وكأنه كان فى انتظار من يشجعه، اتفقنا على بدء التنفيذ بعد تسليم الخدمة مباشرة على أن أتولى مهمة تدبير كوريك كبير للحفر لضمان سرعة الإنجاز .

التقينا عند منتصف الليل فى باطن الترعة الجافة الملاصقة لموقعنا بقرية الجلاء، سلّمته الكوريك الذى استعرته من طاقم مدفع الماكينة القريب من حفرتى، خطا رجب بضع خطوات الى أن تعلقت عيناه ببقعة منخفضة قريبة من الجانب الأيمن للترعة، اقترب رجب منها ثم رشق سن الكوريك فى منتصفها بعد أن نفخ فى كفيه وشمّر عن ذراعيه، لمحت عيناى للمرة الأولى وشما أخضر يدمغ باطن ذراعه الأيمن، أسد هصور يُكشّر عن أنيابه ويرفع سيفا لمواجهة غرمائه، عادة متوارثة بين بعص أبناء الريف، لم تمض دقائق قليلة حتى تحول الأسد الى ماكينة حفر بشرية تفعل فعلها فى الرمال الساكنة بينما كنت أقف الى جواره موزّعا بين الترقب والرجاء .

زاد إحساسى بالإثارة والتوتر بمرور الوقت ومع كل انخفاض فى مستوى الحفرة، ألححت على رجب حتى يسمح لى بالمشاركة فى الحفر، لا وجه بالطبع للمقارنة بين ذراع أبناء البندر من أمثالى وذراع رجب المدعومة بالأسد الهصور، لكنه شرف المحاولة وإثبات التفاعل مع الحدث، لكن رجب لم يسمح لى بذلك إلا بعد أن تجاوز عمق الحفر مترا كاملا .. يامهوّن .

تتابعت حركة الكوريك المحمّل بالرمال من الأسفل الى الأعلى الى أن قارب منسوب الحفر مستوى أكتافى، صعدت الى السطح معتمدا على ذراع رجب وغاص هو لمتابعة الحفر، بعد قليل بدأ رجب فى تحسس حفنة من رمال القاع بيده .. ياكريم . تكررت إختبارات التربة حتى وصلت الحفرة الى مستوى رأس رجب، التفت نحوى وعيناه ترتعشان ببريق خاص، ثم لم يلبث أن استأنف الحفر دون توقف، أمسكتُ أنفاسى وهو يغمغم بصوته الأجش من أسفل الحفرة : شوف لنا عِلبه من عندك .

جريت كالممسوس فى كل الإتجاهات للبحث عن عُلبة فارغة، استوقفنى زميلنا عطا القائم بالخدمة فقلت له باختصار: رجب وصل للميّه . سارعت بإحضار العلبة وعدت لأواجه عطا من جديد، لم أعطه فرصة الإستفسار عما يجرى واكتفيت بسحبه من ذراعه نحو موقع الحفر، امتدت يد رجب وأمسكت بالعلبة ثم انحنى بجذعه وعاد بها مليئة بماء عكر بالرمال، خفق قلبى لرؤية الماء يترجرج فى العلبة بينما كان رجب يغمس بعفوية اصبعه السبابة فى الماء، امتصها بفمه فَمصصت ريقى معه، لكنه لم يكد حتى تفل ما بفمه من ماء واختنق حلقه بكلمات كالتأوهات : يامغيث .. ملح .. ملح مركز.

من ثنايا الحلم والكابوس يأتى الفرج

لم يكن أمامنا سوى ابتلاع إحساس الصدمة الذى أطبق على  نفوسنا بعد أن تبدد بصيص الأمل الذى تعلّقنا به وضحينا من أجله بالراحة والجهد الجهيد. حاول عطا تعزيتنا برؤيا رآها فيما يرى النائم، التمعت عيناه العسليتان وروى لنا كيف أنه وجد نفسه داخل قاربه الذى اعتاد أن يخرج به للصيد فى بحيرة ادكو، وأنه، بقدرة قادر، فوجىء بالقارب يتحرك وسط الترعة الجافة الملاصقة لكتيبتنا بعد أن غمرتها مياه وفيرة، وأنه سارع بفرد شباكه كما كان يفعل فى البحيرة فامتلأت الشباك فى الحال بكل أنواع السمك البحرى والنيلى التى عرفها فى حياته، وقبل أن يفيق من غفوته كان القارب يكاد يفقد توازنه بفعل ماتراكم فيه من خيرات .. ابتسم عطا وأشرقت ملامح وجهه تحت ضوء القمر وهو يؤكد لنا أن السمك فى الحلم رزق، وأن الماء الذى رآه فى الترعة هو الماء الذى ستحمله العربات إلينا بين لحظة وأخرى . 

أراح رجب رأسه الثقيلة على ذراعه المستندة على إحدى ركبتيه، وبدا كالطفل المستسلم لحكاية من حكايات الأمهات قبل النوم، كانت رؤيا عطا بمثابة حِجر الأم الذى هدهده حتى ثقلت جفناه وأخلد الى النوم، ولم أكن بأقل حاجة منه الى النوم بعد عناء اليوم وخيبة الأمل. لاحظ عطا ما صرنا إليه من حال فهمّ يستنهضنا : هِم يادفعه إنت وهوه وكملوا نوم فى حفركم . 

تركنا الترعة على حالها، لم تَجُد بالماء الذى تمنيناه، لكننا أضفنا الى تضاريسها حفرة عميقة يفيض باطنها بماء مالح، ربما كعلامة على شرف المحاولة التى قمنا بها. توجهت ومعى رجب صوب حفرتينا ومضى عطا الى زميله فى الخدمة الذى ظهر من بعيد باحثا عنه، ألقيت بجسمى داخل حفرتى ثم اتكأت برأسى الثقيلة على ذراعىّ كما فعل رجب من قبل، لحظات قليلة ثم أسلمنى النُعاس الى غياباته .

.. وحيد أنا ومحاصر بسكون مريب فيما يشبه القبو المعتم، ، مالذى أتى بى الى هنا .. وأين زملاء الفصيلة؟  أمعنت النظر فتكشفت لى غير بعيد كُوة فى جدار القبو، تقدمت إليها حتى لاح أمامى ضوء شحيح يرشح من بين حوافها، لملمت شتات أفكارى ودفعت برأسى فى منتصف الكُوة لأستشرف ماوراءها، وكم كانت دهشتى عندما رأيتنى أواجه الترعة الجافة وقد سكنها ضوء شاحب، ازدادت دهشتى عندما ميّزت عددا من أفراد الكتيبة منكفئين بأجسامهم على جانبها الأيسر وفى أيديهم أكواب زجاجية فارغة، وتملكنى الخوف عندما مالوا بظهورهم قليلا للأمام ثم استداروا وقد امتلأت أكوابهم بماء بولهم، راقبت مصدوما حركة أيديهم وهى ترتفع لأعلى رويدا رويدا، وحين اقتربت الأيدى بالأكواب من شفاههم إقشعرّ بدنى وتقلّصت أمعائى، ولم أملك سوى التراجع بعيدا عن الكوّة، اندفعت بظهرى الى الخلف فاصطدم بجدار مصمت سميك، هزّنى الألم فانفتحت عيناى فجأة وغشاهما ضوء نهار ساطع .

فى اللحظة التى تحققت فيها من صَحوى تجمعت أمام عينىّ صورة الملازم عبد اللطيف قائد الفصيلة واقفا فوق رأسى يتأملنى بابتسامة حانية، ولم أكد أهم بالكلام حتى امتدت يد الضابط الىّ بجركن أبيض شفاف يتلألأ الماء من داخله فيما كانت شفتاه تردد: 

اشرب يا محمد .. اشرب .. فُرجت يا ميرغنى

‏ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صدمة تطوير الهجوم “المتأخر”

لا أحد فى الموقع تهيأ لذلك النبأ المزعج الذى لم يتحدث عنه الضباط ولا أشارت إليه البلاغات الرسمية، لكنه أنهى على الفور حالة الإسترخاء التى أعقبت انفراج محنة العطش فى كتيبتنا، وأدخلنا فى حالة الصدمة والإلتباس والبحث عن تفسير لما حدث .. كيف يمكن تصديق هذه النهاية لعملية تطوير الهجوم التى قامت بها قواتنا المدرعة بالأمس؟ ولماذا لم يفكر أحد قادتنا فى إبلاغنا بالحقيقة، مهما كانت قسوتها، حتى نفهم أبعاد الموقف ونقدر مسئولياتنا فى ضوء هذا التطور؟ ألسنا جميعا شركاء ميدان أم أن الأمور ستبقى على حالها: مخ وعضلات .

المصادفة وحدها هى التى كشفت لنا مصير هذه العملية التى كان يفترض أن تقود الجيش كله الى موقع متقدم فى قلب سيناء، المصادفة هى التى قادت خطى أربعة جنود ممن شاركوا فى العملية الى موقعنا قرب الفجر، كان بينهم جريح وكانوا جميعا من أفراد الفرقة 21 المدرعة التى قامت بالهجوم فى قطاع الجيش الثانى، تقطعت بهم السبل ليلا حتى وصلوا منهكى القوى الى حافة الترعة الجافة المحازية لموقعنا بقرية الجلاء، قضوا نحو ساعة بيننا ثم استأنفوا السير بحثا عن وحداتهم التى تراجعت خلف الخطوط الأمامية، مضوا وتركوا وراءهم أصداء روايتهم الأليمة لما جرى:

” لم تكن الشجاعة أو الكفاءة تنقص قواتنا .. فقط كان العدو يعرف نوايانا ويتوقع تقدمنا، وكان جاهزا لمواجهتنا بكل ما أوتى من أحدث الأسلحة .. قوة نيران كثيفة ومفاجِئة لم يحسب لها حساب، صواريخ مضادة للدروع تستخدم للمرة الأولى فى الجيش الإسرائيلى، ودبابات “بشوكها” وبأعداد غير مسبوقة نُقلت الى الميدان مباشرة من مخازن الجيش الأمريكى .. ومع كل ذلك ظللنا ننتظر تدخل سلاحنا الجوى الذى مهّد لنجاح العبور لتخفيف الضغط علينا، لكنه غاب تماما عن ساحة المواجهة”

” دخلنا فى قتال شرس مع دبابات العدو مع أول ضوء وحتى العصر، ووصل الأمر الى حد قيام بعض دباباتنا بالإشتباك مع دباباتهم المتقدمة فى معارك تصادمية، وفى أوضاع غير متكافئة بالعراء .. استبسل قادتنا وجنودنا وألحقوا بها ما استطاعوا من خسائر، لكن العدو استمر فى الضغط على تشكيلاتنا بقوة النيران التى أتت على العشرات من دباباتنا وعرباتنا المدرعة، وعندما تزايدت خسائرنا فى المعدات والأفراد صدرت الأوامر لقواتنا بالتراجع الى داخل رؤوس الكبارى التى انطلقنا منها” وهكذا تبدد الأمل الذى راودنا بالوصول الى خط المضايق، وحققت اسرائيل أول نجاح تكتيكى على الجبهة المصرية منذ بداية الحرب .

انزويت فى جانب من الحفرة وأطلقت بصرى فى اتجاه الأفق البعيد، كانت الشمس تظهر وتغيب تحت غلالات من السحب العابرة فيما كانت رأسى مطوقة بالأسئلة الحائرة وأفكارى تنزف بلا توقف .. لماذا أخفقنا فى تطوير الهجوم الى المضايق؟ هل كنا مستعدين حقا لتحقيق هذا الهدف الذى لم يغب عن تفكير قادتنا قبل الحرب؛ الهدف الذى كانت تنتهى عنده مشروعات التدريب الميدانى التى شاركت فيها مختلف الأسلحة بالجبهة ؟!

.. لماذا اعتقد القادة أن الظروف لم تكن مواتية لتطوير الهجوم خلال الأيام الأولى للحرب عندما كان العدو فاقدا لإتزانه، وكيف رأوا الفرصة سانحة بعد أن عبأ العدو كل قدراته العسكرية والبشرية؟ لماذا اندفعنا الى الهدف عندما أصبح بعيد المنال وأشحنا عنه عندما كان فى متناول اليد ؟! .. لماذا لم نعد للأمر عُدته فور نجاحنا فى معارك العبور واحتلال رؤوس الكبارى؟ ألم يكن تطوير الهجوم هو المهمة التالية لقواتنا بعد هذا النجاح ؟!

.. لنفرض أن القيادة تغاضت أو تخلت عن تنفيذ خطة تطوير الهجوم بعد العبور ربما لكى لا تجازف بما تحقق فى ميادين القتال .. فما الذى غيّر موقفها ودفعها الى تنفيذ الخطة فى ظروف مختلفة وبدون استكمال مقومات تحقيق الهدف؟!

اقترب أحمد تيخا من موقع حفرتى ثم جلس الى جوارى صامتا، لاحظت وجهه المكدّر ونظراته الساكنة على غير عادته فبادرت بسؤاله :

ــ مالك ؟

ــ مخى ها يولع

ــ من إيه

ــ من اللى سمعناه

ــ انت كمان؟

ــ تفتكر هايقلبوا علينا بعد اللى حصل ؟

ــ مين ؟

ــ هايكون مين غير البُعدا

ــ ممكن طبعا .. بس المهم إننا نفضل جاهزين

ــ أنا قلت كده برضه

عاد تيخا الى صمته فعمدت الى إستفزازه لمواصلة الحديث

ــ انت خايف يا تيخا ؟

ــ خايف .. خايف من إيه !

ــ طيب ليه فكرت إنهم ممكن يقلبوا علينا ؟

ــ .. يعنى عشان أعمل حسابى

ــ حسابك فى ايه .. فهّمنى

ثبّت تيخا عينيه نحوى وأكمل بشىء من الجدية المصطنعة:

ــ شوف يا دفعه .. ماتآخدنيش يعنى .. أنا معرفش أحارب إلا لما أكون فاهم التكاتيك بتاعت العدو

نجح تيخا فى مراوغتى ربما لكى يبدو قويا فى هذه اللحظة، وربما لكى نخرج سويّا من دائرة التفكير فيما حدث الى فضاء الإستعداد لما يمكن أن يحدث، لم تسعفنى الكلمات للإستمرار فى مجادلته فاكتفيت بتسديد لكمة مزاح الى كتفه المكتنز بالعضلات، ولم أكد حتى استعاد وجهه الطفولى بعضا من ملامحه الباسمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وللرواية بقية..

19  أغسطس  2020

Leave a Reply

Your email address will not be published.